وقفة مع قوله تعالى: {يا أَيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وَأهليكمْ نارا}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعدُ:
فإنَّ الله أنْزَلَ هذا القرآنَ العظيم؛ لتدبُّرِه والعملِ به، قال - تعالى -: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
وعملاً بهذه الآية الكريمة؛ فلْنستمعْ إلى آيةٍ من كتاب الله - تعالى - ولْنتدبَّر ما فيها من العِظات والحِكَم، قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
قوله - تعالى -: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}؛ قال أميرُ المؤمنين عليٌّ - رضي الله عنه -: "أدِّبوهم وعلِّموهمُ الخيرَ"[1]، وقال قتادةُ - رحمه الله -: "تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيتَ لله معصية؛ زجرتَهم عنها"[2].
وقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}؛ أي: حطبُها الذي يُلقَى فيها جثثُ بني آدمَ والحجارةُ، قال ابن مسعود: "هي حجارةٌ من الكِبريت الأسود"[3].
وقوله: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ}، قال الشيخ ابن سعدي: "أي: غليظةٌ أخلاقُهم، شديدٌ انتهارُهم، يفزعون بأصواتهم، ويُخيفون بمرآهم، ويُهينون أصحابَ النار بقوَّتهم، ويَمتثلون فيهم أمرَ الله الذي حتَّم عليهم العذاب، وأوجب عليهم شدةَ العقاب" ا هـ[4].
وقوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، هذا مدحٌ للملائكة، وانقيادهم لأمر الله، وطاعتهم له في كلِّ ما أمرهم به.
ومن فوائد الآية الكريمة:
1- أنه يجب على الرجل أن يأمر أهلَه بالمعروف، ويحثَّهم عليه، وينهاهم عن المنكر، ويزجرَهم عنه؛ فيأمرُهم بالصلاة، والزكاة، والصيام، وسائرِ فرائض الإسلام، ويحثُّهم على الأخلاق الجميلة، والآداب الحسنة، ويرغِّبُهم في فضائل الأعمال، كقراءة القرآن، وتعلُّم العلوم النافعة، قال - تعالى - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، وقال عن إسماعيل - عليه السلام -: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55].
عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناءُ سبعِ سنين، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجِع))[5].
وكذلك يجب عليه أن ينهاهم عن كلِّ ما يُغضِب اللهَ من الأقوال والأفعال، فينهاهم عن الفواحش والآثام، ما ظهر منها وما بطن، وعن قول الزُّور، وينهى نساءَه وبناتِه عن التبرُّج والسُّفور، والخروج إلى الأسواق ومواقع الرِّيَب، وينهى جميعَ أهله ومَن تحت يده عن مصاحبة الأشرار ومخالطتهم، والتشبُّه بالكفَّار والفسَّاق، ويقطع عنهم الوسائلَ المُفْضِيَة إلى غضب الله وسَخَطِه، المُشْغِلَةَ عن رضاه وطاعته، كالقنوات الفضائية، والتِّلفاز، ونحوها من الوسائل التي تدعو إلى الرَّذائل ورديء الأخلاق.
عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنِ ابتُلِيَ مِن هذه البنات بشيءٍ، كُنَّ له سِتْرًا من النار))[6].
2- عِظَم ما أعدَّ الله لأعدائه من العذاب والنَّكال، ففي هذه الآية أخْبَرَ - تعالى - أن حطب النار التي توقَد بها: جُثَثُ بني آدم، وحجارةٌ من الكِبريت الأسود، وأخبر في آيةٍ أخرى عن هَوْلِها وشدَّة عذابها، فقال: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 15 - 18]، وقال أيضًا: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 27 - 29]، وقال - تعالى -: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30].
عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((يُؤتى بجهنَّمَ يومئذٍ، لها سبعون ألفَ زمام، مع كلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجرُّونها))[7].
وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نارُكُم هذه التي يوقِدُ ابنُ آدم - جزءٌ من سبعينَ جزءًا من حَرِّ جهنمَ))، قالوا: "واللهِ إن كانت لكافيةً يا رسول الله!"، قال: ((فإنها فُضِّلَتْ عليها تسعةً وستين جزءًا، كلُّها مثلُ حَرِّها))[8].
3- إثبات وُجُود الملائكة، وأنه يجب الإيمان بهم، وأنهم أصناف؛ فمنهم: خَزَنَة النار، الموكَّلون بتعذيب أهل النار وإهانتهم، وأنَّ عددَهم كما ذكر الله - عزَّ وجلَّ - تسعةَ عشرَ، قال - تعالى -: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30]، وأن كبير هؤلاء الملائكة مَلَكٌ كريمٌ، اسمُه مالِك، قال - تعالى -: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، وأن الإيمانَ بالملائكة، وأنهم عباد مُكْرَمُون، لا يَعصُون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون - ركنٌ من أركان الإيمان الستَّة، قال - تعالى -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
4- أن على المؤمن أن يَقِيَ نفسَه من عذاب الله، وهذه الوقاية تكون ولو بأقل القليل من فعل الخير، عن عديِّ بن حاتم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحدٍ إلا سيكلِّمه الله، ليس بينه وبينه تُرجُمانٌ، فينظر أيمنَ منه، فلا يَرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأمَ منه، فلا يَرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النارَ تِلقاءَ وجهه، فاتَّقوا النار ولو بِشِقِّ تمرةٍ))[9].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.