رجال صدقوا
ليس هناك أقدر على تحريك النفوس ، ودفعها إلى التضحية والفداء من الإيمان ، فإذا ما أضاءت بشاشته القلوب ، وتمكنت من مقاليد الإنسان جعلته يستعذب الصعب وبسترخص الغالى ، ويقدم الروح والمال راضيا مطمئنا فى سبيل ذلك الإيمان الذى ملك عليه أقطار نفسه ، وكان أمام عينيه هدف الحياة الذى لاهدف سواه . وقد حفل التاريخ الإسلامى بحشد ضخم من الرجال الذين قدموا التضحيات العظام بالنفس والمال فى سبيل العقيدة التى آمنوا بها واطمأنوا إليها ، بعدما رأوا الآيات تترى بتصديق وعد الله لهم ، وبعدما أشرقت أفئدتهم بنور التوحيد ، واستقامت على الطريق على يدى النبى الأكرم صلوات الله وسلامه عليه ، فأبصروا أنفسهم ، وقد قادهم رسول الله إلى عز الحياة بعد ذُلها ، ونعمة الإيمان بعد نقمة الكفر وأخرجهم من الظلمات إلى النور ، فعرفوا قيمة الحياة ، وفهموا رسالة الإنسان على هذه الأرض ، وأيقنوا بما أعد الله لهم من سيادة الدنيا وسعادة الآخرة ، فأصبحوا بما قدَّموا مُثلا تضرب للإنسانية فى تاريخها الممتد فى القديم والحديث ، وعلامات لمن يريد أم يبنى مجدا أو يُزيل ظلما ، أويُواجه عدوانا ، أويُرْسى عدلا ، وقد وصفهم ربنا عز وجل فى كتابه الكريم فقال " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظروما بدلوا تبديلا ".
وبفضل هذه التضحيات التى قدموها طائعين مُختارين علت كلمة الحق ، وارتفعت قيمة النلاس ، وانهدمت صروح الظلم ، وعاد الإنسان إلى طبيعته السليمة التى فطره الله عليها فنعم بالإستقرار وساده منطق الأخوة ، وتوارى منطق السادة والعبيد ، وعرف الجميع أن لافضل لعربى على عجمى ألا بالتقوى ، ونشأ مجتمع على أسس جديدة لامجال فيه لعصبية عرقية ، ولا تفاخر بلون ، او لغة ، أو جنس ، بل أخوة عامة يحكمها قوله تعالى " ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير " . وقول النبى صلى الله عليه وسلم : "كلكم لآدم ، وآدم من تراب ، لافضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى .
وقد قامت الحضارة الإسلامية على العطاء لا الأخذ فلما أعطى بُناتها بسخاء من نفوسهم وأموالهم فتحت عليهم الدنيا وألقت إليهم بمقاليدها ، وانتفعوا بما خلق الله فى الأرض والجبال والبحار والسموات .
وكان سهلا عليهم بعد أن أرست المبادئ التى ضحُّوا من أجلها أن ينتفعوا بما خلق الله ، وسخر لهم إنتفاعا يستوى فيه بنو البشر جميعا ويُسخروا ما حفل به الكون لمصلحة الإنسان كل الإنسان على هدى الإيمان الذى أشرقت به قلوبهم والمبادئ التى أخذوا بها أنفسهم ، والأخلاق التى جعلوها دستورهم فى تعاملهم مع الأصدقاء والخصوم على السواء .
هذه التضحيلت العظام بذلها رجال عظام كانوا قادة فى التشريع والسياسة والحرب والسلام ، لم يتعلقوا ذلك فى جامعات ، ولا مؤسسات ، وإنما تلقوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوجيه والقدوة ، فكانوا مُعْجزة الله فى الأرض ، وشهداء على الناس .
وتاريخ الإسلام حافل بالجم الغفير من هؤلاء العظام أمثال أبو بكر وعمر وعلى وعثمان رضى الله عنهم جميعا ، وآل بيته وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم أجمعين ليقدموا هذه القمم المشرفة فى فى تاريخ الإسلام تشهد بخلوده ، وقدرته على الحركة ، وصنع الرجال فجزاهم الله خيرا على ماقدموه لنا .
من هؤلاء خالد بن سعيد بن العاص أحد السابقين الأولين إلى الإسلام فقد كان خامس من أسلم . و بداية الطريق إلى إسلامه كانت مرتبطه بما رأى خالد فى نومه من رؤى مثيرة مرتين ، أما أولاهما فكانت ، يقول خالد :"رأيت فى النوم قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم ظلمة غشيت مكة حتى ما أرى جبلا ولاسهلا ، ثم رأيت نورا خرج من زمزم مثل ضوء الصباح ، فلما ارتفع عظم وسطع حتى ارتفع فأضاء لى ما أضاء البيت ثم عظم الضوء حتى ما بقى سهل ولا جبل ألاوأنا ره ، ثم سطع فى السماء ، ثو انحدر حتى أضاء لى فيها نخل يثرب ، وسمعت قائلا يقول فى الضوء "سبحانه سبحانه " تمت الكلمة وهلك ابن مارد بهضبة الحصى ، بين أدرج والأكمة ، سعدت هذه الأمة ، جاء النبى الأمين ، وبلغ الكتاب أجله ، كذبته هذه القرية ، نعذب مرتين ، وتتوب فى الثالثة ، ثلاث بقيت ثنتان بالمشرق وواحدة فى المغرب – تهذيب تاريخ ابن عساكر ج5 ص46 – المنمق ص358 – أنساب الأشراف قسم 2 ج4 ص125 – أخبر خالد أخاه عمرو وكان موضع ثقته وقص عليه ما رآه فى النوم فقال عمرو : لقد رأيت عجبا – وكان تعليقه " اننى أرى أن هذا الأمر يكون فى بنى عبد المطلب ، إذ رأيت النوز يخرج من زمزم " – تهذيب ابن عساكر ج5 ص46 – المنمق ص 358 – أنساب الأشراف قسم 2 ج4 ص 125 – وتمضى الأيام وطيف الرؤيا لايبرح خالدا ويبدو أن النبى صلى الله عليه وسلم قد جاءه الوحى فى تلك الفترة ، وأن الدين الجديد بدأ يتناثر على ألسنة أهل مكة بين مصدق ومكذب ، ورأى خالد من أبيه عزما وتصميما على رفض ما يدعو إليه محمد بل إستهزاء به وسخرية منه وهو يحس فى قرارة نفسه أن ما يتمسك به أبوه وقومه من عقائد إن هى إلا أوهام لايقبلها عقل ولايرضى بها صاحب العقل السليم والقلب الواعى ، وكبف له أن يعرف بالتفصيل ما يدعو إليه محمد ، وهو يخشى سطوة أبيه وفى غمرة هذا الصراع النفسى الذى عاشه خالد إذا به يرى رؤية أكثر وضوحا وأبين دلالة ، وليس له بعد ذلك أن ينتظر ، فقد رأى أنه واقف على شفير جهنم يرى أهوالها وسعتها ، ورأى كأن أباه يدفعه فيها ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحقويه لئلا يقع فيها ، ففزع لما رأى ، ، وأيقن أن الأمر جد حتى قال : أحلف أنها حق .. فلقى أبا بكر من فوره فقص عليه ما رأى ، فقال له : أريد بك خير ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه ، فإنك ستتبعه فى الإسلام الذى يحجزك من أن الوقوع فى النار وأبوك واقع فيها .
فلقى خالد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأجياد فقال : يا محمد إلى من تدعو " قال : أدعو إلى الله وحده لاشريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وتخلع ما ماأنت عليه من عبادة حجر لايدرى مَن عَبَدَه ممن لم يعبده فلم يتردد خالد من إعلان إسلامه قائلا : فانى أشهد أن لاإله إلا الله وأشهد أنك رسول الله .