بسم الله الرحمن الرحيم
صحابية مبشرن بالجنة
الرميصاء أم سليم بنت ملحان
جاء الإسلام فوجدت المرأة فيه ملاذها، وأكرمها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى عرفت مالها وما عليها، فصارت سيرة الصحابيات مدرسة وقدوة لكل تائهة...
شاركت المرأة المسلمة في سائر مناحي الحياة، ولم تكن مشاركتها سطحية بل كان يزكيها نضج تربوي على منهاج النبوة.
في مدرسة سيدتنا الرميصاء دروس تربوية تطبيقية على هدى من الله وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
عن أنس بن مللك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر- بعد أن أنقذه الله منه- كما يكره أن يلقى في النار(1).
ثلاث خصال قلبية يتوسطهن حب عبد لعبد أو أمة لأمة لا تحبها إلا لله. هذه هي الصحبة المفتاح(2) نفتح بها أبواب الخير في سيرة صحابية كان مهرها الإسلام. يقول عنها صاحب الحلية: ... ومنهن الرميصاء أم سليم المستسلمة لحكم المحبوب، الطاعنة بالخناجر في الوقائع والحروب(3).
إن الحديث عن أم سليم رضى الله عنها متعدد الجوانب، متشعب الاتجاهات، كثير المنعطفات ولكنها كلها تصب في مجرى واحد نستطيع أن نسميه حب الله ورسوله.عنوان يشرف وجودها في دائرة الحب العظيم، ومن ثم يتيسر لنا بإذن الله تناول شخصيتها وإبراز معالمها والإحاطة بمؤهلات بروزها وتبوئها هذا المقام السامي.
ونحن إذ نطرق باب صحبتها نفتحه بحبنا لها لله، وفي الله، نرجو أن يبعث الله في قلوبنا وأرواحنا نفحة من نفحات أم سليم الزكية الفواحة تنهض بنا من وهدة الخمول والركود، إلى ربوة ذات قرار ومعين، ولا يبقى نصف المجتمع أسير التقليد الأعمى والهوى المتبع.
هي أنصارية من أهل المدينة، أسلمت مع السابقين والسابقات إلى الإسلام. كانت زوجة لمالك بن النضر الذي اختلف معها وأصر على شركه، وأدى ذلك إلى الفراق بينهما.
وهذا أول المواقف لـأم سليم فحب الله ورسوله أغلى وأثمن من حب العشير والزوج. وكانت أم سليم تقول: لا أتزوج حتى يبلغ أنس ويجلس في المجالس.(4)
جاءت بابنها أنس وهو طفل ليخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان بعد أنسا الذي تعلم في المدرسة المحمدية، وعلم الأمة بما رواه من أحاديث. وهو القائل: جزا الله أمي عني خيرا، لقد أحسنت ولايتي...(5).
وصدق الأستاذ عبد السلام ياسين إذ يقول: الدين الذي هو رأس المقاصد، وغاية الغايات يرضع من ثدي الأمهات الصالحات القانتات الحافظات.
ومضت أم سليم في طريقها إلى الله... وجاءها أبو طلحة الأنصاري خاطبا وهو يومئذ مشرك، وأبو طلحة من أغنياء الأنصار. وترضى المومنة الصحابية من الخاطب الغني غير ما تطمح إليه عامة النساء من مال. لا تطيب نفسها بغير أنفس ما يملك، روى النسائي عن أنس أن أبا طلحة خطب أم سليم. وأم سليم بطلة مجاهدة، قالت له: و الله ما مثلك يا أبا طلحة يرد؛ ولكنك رجل كافر وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فهذا مهري،ولا أسألك غيره. فأسلم،و كان ذلك مهرها. قال ثابت (الراوي): فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم، الإسلام. فدخل بها فولدت له(6).
وفي مدرسة أم سليم دائما نقف نتعلم درسا جديدا في أصول وقواعد العلاقات الزوجية قائما على السكن والود والرحمة.
فقد جاء في الصحيح أن ولدا لها من أبى طلحة قد مات فقالت لأهله لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أتحدث قال أنس فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب فقال ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت يا أبا طلحة رأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال لا. فلما انتزعت منه هذا الجواب قالت: فاحتسب ابنك قال فغضب وقال تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني بابني؟ فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لكما في غابر ليلتكما.
يقول الإمام النووي: وفي هذا الحديث مناقب لأم سليم رضي الله عنها من عظيم صبرها وحسن رضاها بقضاء الله تعالى، وجزالة عقلها في إخفائها موته –أي الصبي– على أبيه في أول الليل ليبيت مستريحا بلا حزن ثم عشته وتعشت ثم تصنعت له، وعرضت له بإصابتها فأصابها. ويقول: وضربها المثل العارية دليل لكمال علمها، وفضلها، وإيمانها, وطمأنينتها.
وفي رواية: ... فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: أعرستم الليلة؟ قال: اللهم بارك لهما.. فولدت غلاما... (7).
وتلد المرأة العاقلة غلاما يشب ويصبح عالما, وينجب عشرة من الأبناء كلهم قد حملوا العلم عنه ينشرونه في الآفاق، وتتحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم.(
ولا تنتهي المواقف من أم سليم حول رسول الله ومعه..
روى البخاري أن ضيفا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا يؤكل فانبرى أبو طلحة رضي الله عنه وأخذ معه الضيف إلى بيته. أخبرته زوجه أم سليم أن ما عندها إلا عشاء الصبية. فنومتهم وتآمرت مع زوجها فلما قدمت العشاء للضيف قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته ليأكل الضيف شبعه متوهما أن ربة البيت وزوجها يأكلان معه.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: عجب من امرأة وزوجها يجوعان ويجوّعان الصبية ليطعم الضيف, ثم لا يكتفيان بهذا الإيثار العجيب حتى يحتالا على الضيف. احتالا لآخرتهما فعجب ربنا من فلان وفلانة. زهد هذا, وإحسان هذا, وبذل هذا, وقتل للأنانية والشح(9). ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.(10)
وأطعمت الرميصاء ضيف رسول صلى الله عليه وسلم طعام الأولاد, وأطعمتنا نحن معنى إطعام الضيف طعام الأولاد ففي المعنى زاد للتقوى وطعام الإيمان وحلاوة اليقين ورائحة الجنة(11). ويروي البخاري ...فذهب أبو طلحة إلى صلاة الصبح فاستقبله رسول صلى الله عليه وسلم فقال له: يا أبا طلحة لقد ضحك الله من صنيعكما الليلة.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: تعجب ربنا جل وعلا من صنيع الأنصارية التي أطعمت ضيف الدعوة, ضيف رسول صلى الله عليه وسلم عشاء أطفالها, واحتالت ليشبع وتلطفت ليهدأ باله. كذلك قبل الحكم الإسلامي, وبعده يلزم المومنات أن يوسعن بيوتهن لاستضافة المومنين والمومنات(12).
تنظر المومنة هل ترتيب فراشها وأناقة أثاثها أحب إليهما أم أن يكون بيتها معقلا من معاقل الإسلام, ومهدا لإنشاء أخوة, وجنة من جنان ذكر الله, ومدرسة يتعلم فيها المومنون والمومنات دينهم, وموعد المجالس تعالي نؤمن ساعة.
قرى الضيف عابر السبيل فرض, وليلته حق على كل مسلم. فإن كان الضيف ضيف دعوة فقراه آكد, وحقه أوجب على من تفقه في دينها(13).
واستضافت أم سليم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها ومعه سبعون أو ثمانون رجلا, فأتتهم بالخبز ففتته وعصرت عكتها(14). تخدم ضيفها لا ترى في ذلك حرجا, ويقر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويبارك الله تعالى كرم الرميصاء فيطعم بطعامها جميع الصحابة؛ إذ صنعت طعاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت ابنها أنس بن مالك يدعو الرسول إلى الطعام فقال النبي للصحابة: لقد صنع لكم أبو طلحة طعاما, وذهب جميع الصحابة إلى بيت الرميصاء. فقال أبو طلحة: ماذا نصنع ؟ فقالت الرميصاء: رسول الله أعلم بما يفعل,فأمر الرسول الصحابة أن يدخل عشرة عشرة حتى أكلوا جميعا وشبعوا ولم ينقص من طعام الرميصاء شيء(15).
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: كان المومنات والمومنون المتجالسون المتآكلون يعيشون مع الوحي يوميا, وكان ذكر الآخرة والجنة والنار, وما فيهما, ومجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومجالس الإيمان بين مؤمن ومؤمن, وبين مؤمنة ومؤمنات, قد غرست في القلوب وهذبت في النفوس مخافة الله (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) و كان الستر والحجاب الشرعي أدبا ظاهرا خلفه التقوى(16).
وفي رواية للبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على حيسة أم سليم وتكلم بما شاء: دعاء وبركة، وإناء صغير يأكل منه ثلاث مائة رجل حتى يشبعوا ثم يبقى ملآن. هذه معجزاته الكثيرة صلى الله عليه وسلم، لم يؤمنوا ولم يؤمن الصحابة والصحابيات رضي الله عنهم ذلك الإيمان اليقين إلا بعون من الله تعالى وتأييد تمثلا من بين ما تمثل في حدوث هذه المعجزات التي صحبت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما صحبت حياة الرسل من قبله.
ما الإقناع العقلي وحده أخضعهم وأقنعهم. بل أقنعهم خرق النواميس الحسية، وهم يشهدون وينظرون ويأكلون ويشربون.(17)
ونحن في صحبتنا هاته مع أم سليم نتساءل كيف كانت تتصرف في الشدائد؟ كيف كان جهادها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
يخبر أنس أن رسول الله كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى، قال أنس لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي. ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما (خلاخلهما) تنقران القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان تملآنهما، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم.(18)
ويوم حنين إذ انهزم المسلمون ساعة من نهار كانت أم سليم بخنجرها تتحدى الأعداء
جاء زوجها أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويخبره أن مع أم سليم خنجرا. يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصدها. فقالت أردت إن دنا إلي أحد منهم طعنته رواه سعد وغيره.(19)
ويقول رفاعي سرور: ولنا أن نعلم عظمة موقف الرميصاء إذا علمنا أن الذي بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما ذكر فتح الباري- في غزوة حنين نحو المائة وبضعة وثلاثون من المهاجرين والبقية من الأنصار، ومن النساء أم سليم وأم حارثة. (20)
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: سؤال المؤمنات وإشكاليتهن: كيف وبم تعبأن الصحابيات، فجاهدن في سبيل الله في ساحة القتال جنبا إلى جنب مع الأبطال؟ إن عرفنا سر تلك التعبئة الجليلة، ربما كان أهون علينا أن نجاهد جهادا لا دماء فيه تسيل. الصحبة المفتاح والاصطفاء الإلهي متصل إلى النماذج الكاملة تشرئب أعناق المؤمنات يتعبأن ويعبئن أجيالا باحتذاء النموذج الأكمل وصحبته، إلى أم سليم وصحيباتها، وإلى الأكملين المرسلين، سباقا مع أبناء الدنيا، عقبات كسب القوة في الدنيا، وعين القلب على من جعلهم الله لنا أسوة، تلك التعبئة الجهادية وحدها تعز بها الأمة، وتشرف بها مثوى المؤمنات. (21)
ويخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه قائلا: رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة. الرميصاء بصيغة التصغير هي العميشاء.
يقول المرشد: هل هذه الكلمة من فيه الشريف صلى الله عليه وسلم عيب وتحقير وتصغير؟ كلا، بل الكلمة بصيغتها التصغيرية ودلالتها اللغوية كأنها تقول هذه المرأة قليلة الحظ من جمال الجسم، انظروا أين أوصلها إيمانها.(22)
هذه امرأة من أهل الجنة جعلت الإسلام صداق زواجها، وأطعمت الصحابة من طعامها، وقاتلت في سبيل الله بنفسها، وأضحكت الله بكرمها، وأنجبت عشرة أولاد كلهم يقرأون القرآن غير الذي انتصرت الجيوش بدعوته(23) وأنس راوي أحاديث الجهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه.
كما روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر حديثا، وأخرج لها منها في الصحيحين أربعة أحاديث أحدهما متفق عليه، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بحديث.
وقد كانت الصفة الأساسية لتصرفات الرميصاء هي البساطة في تصور الأحداث والممارسة المعيشية والحياة كلها. فعندما أرادت الزواج قالت لابنها قم فزوج أمك. وعندما مات ابنها قالت لزوجها هدأت نفسه.
وكان طعامها لضيف رسول الله طعاما لأولادها، وكان فراش بيتها حصير قديم نضحته بالماء ليسجد عليه صلى الله عليه وسلم(24).
وقد كانت هذه البساطة هي الأثر الاجتماعي الناشئ عن الشعور بمسؤولية الدعوة في حياة أصحابها، فلا تستهين المؤمنة بما عندها تنفق منه لأجل الدعوة.
وهذا بيت الدعوة الذي نسأل الله أن يكون في واقعنا مجتمعا كاملا وحياة دائمة(25).
محبة أصلت الصحبة, صحبة أثمرت ذكر الله وخشية الله, صدق التقى به تصديق فاعتنقه (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون, لهم ما يشاءون عند ربهم, ذلك جزاء المحسنين) الزمر 32-33.
هذه هي أم سليم.. نموذج كريم للزوجة الصالحة.. والأم الفاضلة.. ومثل رفيع للمرأة المسلمة.. في عقلها الناضج.. وعاطفتها المتزنة.. وإرادتها القوية.. وإيمانها العميق.
والآن..
لم يبق إلا العمل البناء..
وهذه دعوة موجهة إليك..
فهل أنت على استعداد لتلقي الدعوة؟
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الله صلى الله عليه وسلم.